صلاح هاشم
ايليا سليمان
السينما العربية في المسابقة الرسمية
فيلم ( الزمن الباقي ) للمخرج الفلسطيني
يشمخ بالسينما العربية في مهرجان ( كان ) 62
صلاح هاشم. كان.فرنسا
شمخ (الزمن الباقي ) بفنيته العالية ، وقوة تصويره لضياع وغربة الفلسطينيين في وطنهم ، حين عرض اليوم، واعتبر - بعيدا عن أغلبية (أفلام المسابقة ) التي كرست للعنف، وتفجرت بالدم أشلاء ، وجعلت الدورة ٦٢ تبدو لنا أكثر وأرعب دورات كان دموية وعنفا وتوحشا- أن عرض فيلم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان،جاء في وقته تماما،ليخرجنا من واقع ( الكوابيس ) المرعبة التي خبرناها في أفلام ( انتقام ) و( عطش ) و ( عدو المسيح ) وغيرها وعلي الرغم من توهجها الفني أحيانا..
إذ ينقلنا (الزمن الباقي ) إلي عالم أكثر إنسانية وجمالا وصفاء، بكل ذلك الحنين المموسق في الفيلم بأغنيات الحب والذكريات البديعة لليلي مراد ومحمد عبد الوهاب وفيروز ، وهو يحكي لنا عن ذكرياته في فيلمه الفني البديع الأثير، ويهديه في آخر الفيلم إلي ذكري والديه..
جاء فيلم إيليا الذي يحكي عن تاريخه الشخصي في فلسطين، وبالتحديد في مدينة ( الناصرة ) منذ عام ١٩٤٨ ولحد الآن ، بمثابة سيرة ذاتية وشهادة أيضا علي ما وقع لأسرة فلسطينية لم ترد أن تغادر في حين طفش وهرب الغالبية العظمي من سكان المدينة, جاء في وقته لكي يسعدنا ويثقفنا ويمتعنا ويبكينا أيضا..
بعد ان تعذبنا في معظم أفلام المسابقة ولم نجد فيلما إنسانيا معقولا ويقدم صورة تشبهنا إلا في فيلمين هما فيلم( النجم المشرق ) للنيوزيلندية جين كامبيون ، وفيلم (البحث عن ايريك ) للبريطاني كين لوش, بينما دارت الغالبية العظمي في مناخات وأنماط وأكليشيهات معروفة ومحفوظة ومكررة من خلال أفلام (النوع,) بل أن بعضها قد تبحث عن مبرر ما لوجوده أو سببا مقنعا لعمل الفيلم فلا ولن تجد..
ويا له من ترف حقا أن تصنع بعض الأفلام فقط، لكي ترضي مزاج أصحابها اللعنة ، ونتكبد نحن مشقة الذهاب إلي المهرجان، لكي نشاهد تلك أعمال تجاهد لكي تحصل علي رضاء المهووسين بالسينما من النقاد والصحفيين وتنسي الجمهور , بل ويحتقر بعضها الجمهور..
يأتي فيلم (الزمن الباقي ) مثل (كاس من الفراولة المثلجة ) في عز حر (جهنم ) في (كان ) ويكون مثل اللوز المقشر، ومحسوبا ومنسجما وموزونا، ولن تجد فيه لقطة أو مشهدا زائدا يجعلك تشعر بالملل والقنوط وتتململ في مقعدك، وتريدان تغادر الصالة..
بل علي العكس ، سوف تفرح بعد المشهد الافتتاحي في الفيلم، الذي يصور عودة إيليا إلي مدينته الناصرة وسط البرق و الرعد والمطر، وضياع واختفاء الطريق فجأة عن السائق في الليل ويغزو دخان كثيف الشاشة ، لكي يبدأ إيليا سليمان يتذكر ويعود القهقرى إلي عام ١٩٤٨، ويحكي لنا عن أبيه (فؤاد سليمان ) صانع الأسلحة في ورشة، المناضل الذي يقرر البقاء في فلسطين بعد أن هربت القوات العربية المحاربة، ولبست القوات الإسرائيلية ملابسها والكوفية والعقال، ودخلوا الناصرة ، وجعلوا عمدتها يوقع علي عريضة استسلام مخزية..
مرثية الزمن الحاضر الغائب
ويكشف هنا في الجزء الأول من الفيلم عن حكاية الناصرة التي سقطت في يوليو ١٩٤٨ واعتقال وتعذيب الأب ، ثم ينتقل في ما بعد إلي صورة المدينة في ظل الاحتلال، من خلال فصل مدرسي يغني فيه الأطفال أغنية بالعبرية عن حلم إسرائيل الذي سوف يصبح (حقيقة ) مثل الشمس في وضح النهار، ثم ومن بعدها ينشدون بالعربية أغنية لفلسطين الوطن الغالي، الذي لن ينسي أبدا !!
وكل فيلم (الزمن الباقي ) هو مرثية للزمن الحاضر الغائب ، وأغنية حزينة عن الغربة والضياع تحت الاحتلال، لكنها رغم عبثيتها وأسلوب إيليا سليمان الباهر في السرد والحكي بأقل الإمكانيات الممكنة ، كما في مسرح العبث واللامعقول عند الايرلندي عند صامويل بيكيت أو الفرنسي من أصل روماني يوجين يونسكو واللبناني جورج شحاذة، ويجعل من فيلم (الزمن الباقي ) قريبا جدا من أعمال السينما الصامتة , ويا لها من متعة حقا نستشعرها ونحن نشاهد فيلمه، وسط فرقعات وصخب العنف والرصاصات الطائشة في أفلام المهرجان..
و لا نشبع من حكايات إيليا وذكرياته عن والديه وعشق والده للصيد في البحر والاستماع إلي أغانيه المفضلة، والجميل المبهر في الفيلم أن إيليا سليمان لا يظهر في فيلمه الزمن الباقي أي حقد أو غل وكراهية ضد اليهود أو الصهاينة أو دولة إسرائيل ، فلا يشتم ويلعن ، بل يصف ما وقع من أحداث بحياد وموضوعية، ويذكر فقط في الفيلم انه كان في صغره يمزق العلم الإسرائيلي ويقول عن أمريكا أنها دولة كولونيالية مرة، ثم دولة امبريالية مرة أخري..
وإزاء جدار العار في إسرائيل يقول لنا إيليا من خلال مشهد فكاهي في الفيلم انه سوف يتعلم رياضة القفز العالي ويقفز بعصا كبيرة من علي السور وينجح بعصاه في القفز بقوة الخيال، كما نجح في فيلمه الروائي السابق ( يد إلهية ) في أن ينسف دبابة بنواة مشمس ومن يدري قد تستطيع السينما الفلسطينية التي يعتمدها ايليا سليمان ان تفجر بقوة الخيال جدار العار وتعكس علي طريقتها إرادة لا تتزعزع.. علي الصمود والمقاومة..
فيلم إيليا سليمان (الزمن الباقي) الذي يحتشد أيضا بالشخصيات الفكاهية مثل (الجار ) أرشحه للفوز بسعفة كان الذهبية ، فالفيلم يجمع بين التاريخ والسياسة والسيرة الذاتية والفلسفة،والأخيرة تظهر هنا من خلال نظرة إيليا سليمان، وتأمله لحاله،وظهوره بنفسه في كل أفلامه ، ونظرة ايليا سليمان التي كشف عنها ومنذ فيلمه الروائي الأول (وقائع اختفاء ) ، هي النظرة التي يفلسف بها حياته، ووجوده العبثي في وطن محتل..
إلا أن هذه النظرة الفلسفية التهكمية الساخرة التراجيدية المأسوية الفكاهية في آن هي التي تخف من عذابات وألم ذلك المواطن الغريب، حتى مع لنفسه وتحت جلده ، وأشبه ما يكون بمتفرج علي مأساة إيليا سليمان ذاته
كما أن الجميل والمثير أيضا أن إيليا سليمان ينهل في محاولته بلورة تلك النظرة، بسبب وعيه وهضمه للتقاليد السينمائية، ينهل من التراث السينمائي عند عمالقة السينما الفكاهية في العالم من أمثال بستر كيتون وجاك تاتي وماكس ليندر، ويبدو لنا مثل بستر كيتون الأمريكي بعد أن قرأ كارل ماركس، وهو يعيش في فلسطين تحت اسم إيليا سليمان ..
فيلم ( الزمن الباقي ) الذي أعجبنا وأحببناه ،هو امتداد لنوع مطلوب من( السينما الذاتية ) التي تهرب من الفبركة والفذلكة والصنعة، لكي تحكي عن وقائع خبرناها وعشناها ، و هو يضع نهاية لثلاثية فيلمية عن فلسطين ..
والجميل في (سينماه) إنها تفتح باب الأمل مستقبلا- بعيدا عن متبلات وأعمال وخزعبلات التكنولوجيا المعاصرة - ل ( سينما مغايرة ) تحكي عن هويتنا و ذاكرتنا ، وتطور من وعينا بتاريخ ومتناقضات مجتمعاتنا. سينما تقربنا من روح و (حساسية ) عصرنا و هي تقربنا اكثر من انسانيتنا..
تحية الي ايليا سليمان علي فيلمه ( الزمن الباقي ) البديع الذي شمخ بالسينما العربية في مهرجان كان 62
صلاح هاشم
--
السينما العربية في المسابقة الرسمية
فيلم ( الزمن الباقي ) للمخرج الفلسطيني
إيليا سليمان
يشمخ بالسينما العربية في مهرجان ( كان ) 62
صلاح هاشم. كان.فرنسا
شمخ (الزمن الباقي ) بفنيته العالية ، وقوة تصويره لضياع وغربة الفلسطينيين في وطنهم ، حين عرض اليوم، واعتبر - بعيدا عن أغلبية (أفلام المسابقة ) التي كرست للعنف، وتفجرت بالدم أشلاء ، وجعلت الدورة ٦٢ تبدو لنا أكثر وأرعب دورات كان دموية وعنفا وتوحشا- أن عرض فيلم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان،جاء في وقته تماما،ليخرجنا من واقع ( الكوابيس ) المرعبة التي خبرناها في أفلام ( انتقام ) و( عطش ) و ( عدو المسيح ) وغيرها وعلي الرغم من توهجها الفني أحيانا..
إذ ينقلنا (الزمن الباقي ) إلي عالم أكثر إنسانية وجمالا وصفاء، بكل ذلك الحنين المموسق في الفيلم بأغنيات الحب والذكريات البديعة لليلي مراد ومحمد عبد الوهاب وفيروز ، وهو يحكي لنا عن ذكرياته في فيلمه الفني البديع الأثير، ويهديه في آخر الفيلم إلي ذكري والديه..
جاء فيلم إيليا الذي يحكي عن تاريخه الشخصي في فلسطين، وبالتحديد في مدينة ( الناصرة ) منذ عام ١٩٤٨ ولحد الآن ، بمثابة سيرة ذاتية وشهادة أيضا علي ما وقع لأسرة فلسطينية لم ترد أن تغادر في حين طفش وهرب الغالبية العظمي من سكان المدينة, جاء في وقته لكي يسعدنا ويثقفنا ويمتعنا ويبكينا أيضا..
بعد ان تعذبنا في معظم أفلام المسابقة ولم نجد فيلما إنسانيا معقولا ويقدم صورة تشبهنا إلا في فيلمين هما فيلم( النجم المشرق ) للنيوزيلندية جين كامبيون ، وفيلم (البحث عن ايريك ) للبريطاني كين لوش, بينما دارت الغالبية العظمي في مناخات وأنماط وأكليشيهات معروفة ومحفوظة ومكررة من خلال أفلام (النوع,) بل أن بعضها قد تبحث عن مبرر ما لوجوده أو سببا مقنعا لعمل الفيلم فلا ولن تجد..
ويا له من ترف حقا أن تصنع بعض الأفلام فقط، لكي ترضي مزاج أصحابها اللعنة ، ونتكبد نحن مشقة الذهاب إلي المهرجان، لكي نشاهد تلك أعمال تجاهد لكي تحصل علي رضاء المهووسين بالسينما من النقاد والصحفيين وتنسي الجمهور , بل ويحتقر بعضها الجمهور..
يأتي فيلم (الزمن الباقي ) مثل (كاس من الفراولة المثلجة ) في عز حر (جهنم ) في (كان ) ويكون مثل اللوز المقشر، ومحسوبا ومنسجما وموزونا، ولن تجد فيه لقطة أو مشهدا زائدا يجعلك تشعر بالملل والقنوط وتتململ في مقعدك، وتريدان تغادر الصالة..
بل علي العكس ، سوف تفرح بعد المشهد الافتتاحي في الفيلم، الذي يصور عودة إيليا إلي مدينته الناصرة وسط البرق و الرعد والمطر، وضياع واختفاء الطريق فجأة عن السائق في الليل ويغزو دخان كثيف الشاشة ، لكي يبدأ إيليا سليمان يتذكر ويعود القهقرى إلي عام ١٩٤٨، ويحكي لنا عن أبيه (فؤاد سليمان ) صانع الأسلحة في ورشة، المناضل الذي يقرر البقاء في فلسطين بعد أن هربت القوات العربية المحاربة، ولبست القوات الإسرائيلية ملابسها والكوفية والعقال، ودخلوا الناصرة ، وجعلوا عمدتها يوقع علي عريضة استسلام مخزية..
مرثية الزمن الحاضر الغائب
ويكشف هنا في الجزء الأول من الفيلم عن حكاية الناصرة التي سقطت في يوليو ١٩٤٨ واعتقال وتعذيب الأب ، ثم ينتقل في ما بعد إلي صورة المدينة في ظل الاحتلال، من خلال فصل مدرسي يغني فيه الأطفال أغنية بالعبرية عن حلم إسرائيل الذي سوف يصبح (حقيقة ) مثل الشمس في وضح النهار، ثم ومن بعدها ينشدون بالعربية أغنية لفلسطين الوطن الغالي، الذي لن ينسي أبدا !!
وكل فيلم (الزمن الباقي ) هو مرثية للزمن الحاضر الغائب ، وأغنية حزينة عن الغربة والضياع تحت الاحتلال، لكنها رغم عبثيتها وأسلوب إيليا سليمان الباهر في السرد والحكي بأقل الإمكانيات الممكنة ، كما في مسرح العبث واللامعقول عند الايرلندي عند صامويل بيكيت أو الفرنسي من أصل روماني يوجين يونسكو واللبناني جورج شحاذة، ويجعل من فيلم (الزمن الباقي ) قريبا جدا من أعمال السينما الصامتة , ويا لها من متعة حقا نستشعرها ونحن نشاهد فيلمه، وسط فرقعات وصخب العنف والرصاصات الطائشة في أفلام المهرجان..
و لا نشبع من حكايات إيليا وذكرياته عن والديه وعشق والده للصيد في البحر والاستماع إلي أغانيه المفضلة، والجميل المبهر في الفيلم أن إيليا سليمان لا يظهر في فيلمه الزمن الباقي أي حقد أو غل وكراهية ضد اليهود أو الصهاينة أو دولة إسرائيل ، فلا يشتم ويلعن ، بل يصف ما وقع من أحداث بحياد وموضوعية، ويذكر فقط في الفيلم انه كان في صغره يمزق العلم الإسرائيلي ويقول عن أمريكا أنها دولة كولونيالية مرة، ثم دولة امبريالية مرة أخري..
وإزاء جدار العار في إسرائيل يقول لنا إيليا من خلال مشهد فكاهي في الفيلم انه سوف يتعلم رياضة القفز العالي ويقفز بعصا كبيرة من علي السور وينجح بعصاه في القفز بقوة الخيال، كما نجح في فيلمه الروائي السابق ( يد إلهية ) في أن ينسف دبابة بنواة مشمس ومن يدري قد تستطيع السينما الفلسطينية التي يعتمدها ايليا سليمان ان تفجر بقوة الخيال جدار العار وتعكس علي طريقتها إرادة لا تتزعزع.. علي الصمود والمقاومة..
فيلم إيليا سليمان (الزمن الباقي) الذي يحتشد أيضا بالشخصيات الفكاهية مثل (الجار ) أرشحه للفوز بسعفة كان الذهبية ، فالفيلم يجمع بين التاريخ والسياسة والسيرة الذاتية والفلسفة،والأخيرة تظهر هنا من خلال نظرة إيليا سليمان، وتأمله لحاله،وظهوره بنفسه في كل أفلامه ، ونظرة ايليا سليمان التي كشف عنها ومنذ فيلمه الروائي الأول (وقائع اختفاء ) ، هي النظرة التي يفلسف بها حياته، ووجوده العبثي في وطن محتل..
إلا أن هذه النظرة الفلسفية التهكمية الساخرة التراجيدية المأسوية الفكاهية في آن هي التي تخف من عذابات وألم ذلك المواطن الغريب، حتى مع لنفسه وتحت جلده ، وأشبه ما يكون بمتفرج علي مأساة إيليا سليمان ذاته
كما أن الجميل والمثير أيضا أن إيليا سليمان ينهل في محاولته بلورة تلك النظرة، بسبب وعيه وهضمه للتقاليد السينمائية، ينهل من التراث السينمائي عند عمالقة السينما الفكاهية في العالم من أمثال بستر كيتون وجاك تاتي وماكس ليندر، ويبدو لنا مثل بستر كيتون الأمريكي بعد أن قرأ كارل ماركس، وهو يعيش في فلسطين تحت اسم إيليا سليمان ..
فيلم ( الزمن الباقي ) الذي أعجبنا وأحببناه ،هو امتداد لنوع مطلوب من( السينما الذاتية ) التي تهرب من الفبركة والفذلكة والصنعة، لكي تحكي عن وقائع خبرناها وعشناها ، و هو يضع نهاية لثلاثية فيلمية عن فلسطين ..
والجميل في (سينماه) إنها تفتح باب الأمل مستقبلا- بعيدا عن متبلات وأعمال وخزعبلات التكنولوجيا المعاصرة - ل ( سينما مغايرة ) تحكي عن هويتنا و ذاكرتنا ، وتطور من وعينا بتاريخ ومتناقضات مجتمعاتنا. سينما تقربنا من روح و (حساسية ) عصرنا و هي تقربنا اكثر من انسانيتنا..
تحية الي ايليا سليمان علي فيلمه ( الزمن الباقي ) البديع الذي شمخ بالسينما العربية في مهرجان كان 62
صلاح هاشم
--