القدرة على الحب أحياناً هى قدرة على القتل
بقلم
أمـل الجمل
تعودت عند مشاهدة الأفلام أن أمسك بنوتة صغيرة وقلماً من الرصاص, لأُسجل ملاحظاتي حول مختلف عناصر الفيلم. لكن ذلك كان يُفقدني قدراً كبيراً من تذوقي للعمل الفني, وإحساسي به كجسم حي متكامل, فصرت أراه كأجزاء لا علاقة لها بالكل.. لذلك حينما ذهبت إلى جمعية نقاد السينما لمشاهدة فيلم "البحر داخلنا " أو "ذا سي إنسايد " ـ قررت أن أتبع أسلوباً مختلفاً.. أن أترك نفسي للعمل الفني يأخذني حيث يشاء.. قررت أن أنسى مهمة النقد والكتابة, أن أستمتع بالعمل فنياً وفكرياً.. طمأنت نفسي أنه إذا ما نال الفيلم إعجابي يمكنني مشاهدته مرة ثانية, وربما ثالثة من أجل الكتابة عنه.. بالفعل نسيت وجودي في صالة العرض, وتلاشيت في الفيلم.. عندما انتهيت من مشاهدته أحسست بالنشوة والمتعة تُسيطر علىّ, فرفضت الحديث أو سماع أي شيء عنه في تلك الليلة. انتابتني رغبة ملحة في الجلوس مع نفسي لاستعادة مشاهد الفيلم, والاستغراق فيما طرحه من تساؤلات وأفكار
يحكي الفيلم عن رجل يرفض تذكر الماضي, إنه ينظر للمستقبل, لكن المستقبل بالنسبة إليه لا يعني له سوى الموت.. عن الأسباني "رامون سامبدور", ميكانيكي سابق على سفينة, أُصيب بشلل رباعي وظل في السرير ما يقرب من ثلاثين عاماً. عاش في مزرعة بجوار البحر, فقام برعايته أفراد عائلته أي زوجة أخيه "مانويللا", أخيه الأكبر, والده , وابن أخيه المراهق "جافي".. على مدار السنوات ظل "رامون " يُكافح ليحصل على حق إنهاء حياته.. يرفض أن يعيش بحالته هذه لأنها حياة خالية من الكرامة, كما يرفض اللجوء إلى الكرسي المتحرك, لأن الموافقة على هذا تُساوي من وجهة نظره القبول بفُتات الحرية
تحكي الأحداث حياة رجل تعلم التعبير عن دموعه بابتسامة, أصبح ساخراً خفيف الظل. رجل أنكر على نفسه الحب لأنه فقد القدرة على ممارسته. كانت المسافة بينه وبين حبيبته لا تتعدى 3 أقدام, لكنه أصبح عاجزاً عن إجتيازها, عاجزاً عن لمسها, فتحولت تلك المسافة القصيرة إلى رحلة مستحيلة, إلى حلم, إلى مجرد وهم
كتب السيناريو "أليخاندرو أمينابار" بالاشتراك مع "ماتيو جيل". تعرضا فيه إلى الدوافع التي تقودنا في حياتنا. جسدا فيه الحب الذي يصاحبه رغبة التملك, والحب الخالي منها. أخذانا في رحلة إستكشاف لأنواع الحب, وممارساته, والطرق المختلفة التي نتصور بها الحب.. حكيّا عن علاقة "رامون" باثنين من النساء. المرأة الأولى هى "جوليا " المحامية التي تولت الدفاع عن قضيته بلا مقابل مادي. جاءت إليه بدافع آخر, فهى مثله في طريقها إلى فقد قدرتها على الحركة بسبب مرض "كاداسيل" الإنحلالي.. بدأت " جوليا" بالإتكاء على العكاز, ثم لجأت إلى الكرسي المتحرك, ثم فقدت ذاكرتها. تشعر بعدم جدوى الاستمرار في السير وراء طموحاتها وأحلامها, فقررت الإنضمام إلى "منظمة الموت بكرامة", فهى تُجسد الحرية.. حرية الحياة, وحرية الموت.. تبنت "جوليا" قضية "رامون " لأنها قضيتها. تقضي اليوم كله مع "رامون" لمساعدته في دعوته القضائية الشرعية, تستمع إلى قصة حياته, إلى تفاصيل إصابته, وعندما تقرأ أشعاره تًقرر إصدارها في كتاب.. "جوليا " متزوجة, و"رامون" عاجز عن الحركة أو ترك سريره, لكن قوة غامضة تجذب كل منهما إلى الآخر.. فقد فهمها " رامون" أكثر من أي رجل آخر.. أصبح هو حبها الأكبر, وأصبحت هي كذلك بالنسبة إليه, فوعدته أن تساعده على التخلص من حياته بعد صدور الكتاب تلبية لرغبته الملحة. لكنها في آخر لحظة تتراجع.
المرأة الثانية هى "روزا ", زوجة وحيدة, محبطة, لديها طفلان, وتجارب مؤلمة مع الرجال. تعمل من قبيل الهواية مذيعة ومهندسة صوت في الراديو. وظييفتها الأساسية عاملة في مصنع. لكنها تفشل في الاحتفاظ بها.. تُشارك في إضربات عمالية.. رأت "رامون" في برنامج تليفزيوني, عيناه جميلتان مليئتان بالحياة فلماذا يرغب صاحبهما في الموت؟!.. تعتقد "روزا" أنها إذا ساعدته ربما تساعد نفسها. تدخل إليه بشكل مفاجيء, ودون سابق إنذار .. يدور بينهما حوار مقتضب تقول فيه أن الجميع يُعانون من مشاكل فلما الهرب منها ؟. تحاول إقناعه أن الحياة تستحق أن يعيشها.. تستحق العناء من أجلها.. يشعر "رامون" ببراءة "روزا", وطيبتها.. لكن قبل أن يمنحها صداقته يطلب منها أن تبدأ باحترام رغباته, فلا يمكنها أن تطلب منه البقاء حياً من أجلها.. تقول له أنها تُحبه, أنه يمنحها القوة لتعيش.. فينفى أن يكون ذلك حباً, إنه أنانية تُثقل كاهله, فهى تُريد أن تحتجزه رغماً عنه. طالما أنها تُحب ولديها فلتستمد القوة منهما.. من يُحبه حقاً هو من سيساعده على الموت.
بسبب مشاعرهما القوية لـ "رامون" "جوليا" و"روزا" لا تتقبلان فكرة الحياة بدونه.. لكن عليهما أن يُثبتا أي منهما ستكون قادرة على الحب دون أنانية.. تُثبت "روزا " أنها الأصدق والأقوى, لذلك تستطيع أن تُساعده على أن يموت, فذكرني هذا بالفيلم الفرنسي " قلب في الشتاء" للمخرج " كلود سوتيه", حيث يقتل البطل الصديق الذي أحبه بعد أن انتشر السرطان وآلامه المرّوعة في جسده المريض. قام بحقنه ليخلصه من الجحيم الذي عاش فيه.. قتل أقرب الناس إلينا قتلاً رحيماً يحتاج إلى قدرات خاصة, قدرة على الحب, قدرة على التخلي عن الأنانية, على العطاء, ومنح السلام للجسد المنهك.
فيلم " البحر داخلنا " هو قصة عميقة عن معنى الحب. عن الحب بين "رامون" وزوجة أخيه, الذي يكشف عن أمومة عميقة غير مفهومة.. عن علاقته بابن أخيه "جافي", الذي اعتبره مثل ابنه.. عن علاقته بأبيه, الأب الكبير في السن الذي لا يحتاج إليه أحد, لكنه يعيش مآساة ابنه. وقصة الحب التي تعيشها النشطة في "منظمة الموت بكرامة" مع زوجها, وقصة الحب بين "جوليا" مع زوجها المتفاني في خدمتها.. في الفيلم تظهر أيضاً معاناة "روزا" مع رجال آخرين يضربونها لتجد الحب عند رجل عاجز لكن شخصيته وإنسانيته وذكاؤه يجذبها. وفقدان الفهم والتواصل بين "رامون" وأخيه الأكبر الأناني الذي يرفض فكرة القتل الرحيم لأنه يخشى من الكنيسة وموقفها منه.
تناقض المؤسسة الدينية :
الدولة تدعي أنها مدنية علمانية لكنها ترفض مساعدة أي شخص على الانتحار, فمن يحاول الانتحار ويفشل يتم محاكمته. رغم أن نسبة كبيرة من الأسبان يُؤيدون القتل الرحيم لكن القسيس يرى أن الرب أعطانا الحياة لكن الحياة ليست ملكاً لنا, أن المسائل الأخلاقية لا علاقة لها بالإحصاءات, فمعظم الألمان كانوا يُؤيدون هتلر.. ترفض المؤسسة الدينية التي ينتمي إليها القسيس القتل الرحيم, لكنها ما زالت تُؤيد عقوبة الإعدام, وكانت في الماضي تحرق الناس على العمود إذا لم يوافقوها الرأي.. يُصر بطل الفيلم على حقه في تحديد مسار حياته, في اختيار معتقداته الخاصة, إنه يتساءل : لماذا يتمسك المعبد بمخاوفه من الموت؟.. هل لأنه سيخسر زبائنه إذا لم يخف الناس من الموت؟!.
ترى أتكون الحرية التي تُكلف الحياة ليست حرية ؟.. أم أن الحياة التي تُكلف الحرية ليست حياة ؟.
الشخصيات الحقيقية :
اعتمد فيلم " البحر داخلنا " على قصة حقيقية. لكنها اختصرت في فيلم مدته ساعتين, فتم حذف بعض الأشخاص الحقيقيين, واُختصرت شخصيات آخرى أو تم دمجها.. شخصية "جوليا" كانت تمثل مجموعة من النساء عشقن رامون بعد إصابته.. كما كان هناك كثير من بنات الأخ تم دمجهم داخل شخصية "جافي" ابن أخ "رامون ".
تفاصيل الفيلم ليست مرتبة زمنياً. تم اللجوء إلى الفلاش باك "العودة للماضي", فأصبح السيناريو متعدد الذروات الدرامية, سواء في علاقة "رامون" بالنساء, أو في صراعه من أجل تحديد المصير.. اهتم السيناريو بمعركته مع القضاء لأهميتها في حياة آخرين, فذات يوم, ربما بعد سنوات, سيفهم الناس أن الموقف من قضية القتل الرحيم يجب أن يتغير. لذلك اهتم بها السيناريو ليمنح فرصة التفكير حول ماهية الحياة وماهية الموت ؟ يقول البطل: " كان الموت معنا دائماً, فهو يلحق بالجميع. إنه جزء منا, ومن عالمنا, فلم يُصدمون عندما أختار الموت وكأنه مرض مُعدي ؟!.. أنا أطلبه علناً, لكن الناس يُمارسونه بشكل خاص منذ سنوات."
بدأ تصوير الفيلم في 2003 في "جاليشيا" واستمر ثلاثة أشهر.. عند وصول بعض الممثلين إلى مكان التصوير تمكنوا من لقاء الأشخاص الحقيقيين في حادثة " رامون ".. تم التصوير على شاطيء "فورناس".. حاول المخرج مساعدة الممثلين وتجسيد مشاعرهم بتصوير الفيلم حسب ترتيبه الزمني.. لجأ " أمينابار" إلى توظيف تكنيك الارتجال في إخراجه مع الممثلين, فيقول "أليخاندرو": " كنا نرتجل باستمرار.. كنت أريد أن أفتح أمامهم كافة الفرص الممكنة لتأويل وترجمة الشخصيات, وليس كما تصورتها في عقلي لأرى ما سوف يقدمونه.. وما ظهر في النسخة النهائية للفيلم كان مرتجلا خصوصاً مع شخصية "جوليا "، وعلى الأخص في اللحظات المشحونة درامياً.. مع ذلك فيما بعد أدركنا أننا لم نبتعد عن ما كُتب في الأصل."
أداء الممثلين المحيطين بالبطل كان من أهم عوامل نجاح الفيلم, فقد اتسم الأداء بالطبيعية والبساطة والصدق الشديد خصوصاً "بلين رويدا" في دور " جوليا ", و "لولا كويناس" في دور " روزا ", و"مابل ريبيرا" في دور "مانويللا" زوجة الأخ .. كذلك "كلارا سيجورا" في دورالنشطة في "منظمة الموت بكرامة", و "جون دالمو" في دور الأب, و الشاب في دور " جافي " ابن الأخ.. دور "رامون " الذي جسده "خافير بارديم" ورُشح عنه لجائزة الأوسكار, كان الأصعب فلم يُسمح له باستخدام لغة الجسد أو التعبير بيديه, وفي 90% من مشاهد الفيلم اعتمد في أدائه على لغة الوجه فقط.
الموسيقى :
المخرج كما هو الحال في أفلامه السابقة قام بتأليف موسيقى الفيلم.. يقول " أمينابار " : "حاولت أن أكون منهجي فبدأت بثلاث تيمات أساسية في الموسيقى هىّ التقديم لـ "رامون" , و"جوليا ", و"روزا". كانت التيمة المصاحبة لـ "روزا" أقل ارتباطاً بالموسيقى الأوروبية القديمة.. كانت تيمة "جوليا" سيمفونية متناغمة, أما تيمة "رامون" فكانت مزيجاً من الإثنين مع تكوين ملحمي قوي. لكن لما أُصيب كانت الموسيقى ذات نغمة مضطربة غير واضحة. ثم تحولت في اللقطة الأخيرة إلى احتفال حقيقي بالحياة.. كان "رامون" يُحب الموسيقى الكلاسيكية خصوصاً الأوبرا وهو ما انعكس في الفيلم."
اسم الفيلم " البحر داخلنا " مأخوذ من أحد قصائد " رامون", فالبحر لم يكن يوماً بعيداً عن ذهنه, البحر منحه الحياة, كما أنه سلب منه الحياة.. البحر يعني بالنسبة إليه الحرية, والمكان المليء بالغموض, لم يستطع أحد فهمه.. إنه مثل الموت نتحدث عنه لكن لا نعرف ماذا بعده.. لا نعرف ما يُوجد أسفله.. كلمات " البحر داخلنا " ربما تعني أن حياتنا عبارة عن بحر آخر مليء بالأمواج والغموض الساحر.
حصد الفيلم جميع جوائز مسابقة الفيلم الأسباني القومية عام 2004, وفاز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي.. كما حصل على عشرات الجوائز الدولية من بينها ثلاثة جوائز في مهرجان الإسكدنرية وهى: أحسن فيلم , أحسن سيناريو , وأحسن تمثيل لبطله "خافير بارديم ".
مخرج الفيلم "أليخاندرو أمينابار" الذي شارك في كتابة السيناريو, وفي إنتاج الفيلم, وُلد لأم أسبانية وأب تشيلي.. عادت أسرته إلى أسبانيا وعمره عام واحد, فنشأ وتعلم في "مدريد".. كتب وأنتج وأخرج فيلمه الأول القصير " لا كابيزا " وعمره 19 عاماً.. عندما بلغ الثالثة والعشرين أخرج فيلمه الروائي الطويل "أول ظهور مسرحي لـ تيسس ". ثم حقق فيلم " افتح عينيك " " 1997, وهو فانتازيا درامية, لاقت نجاحاً كبيراً في أسبانيا وفي أنحاء العالم, وأعيد إنتاجه مرة آخرى في هوليوود بعنوان " فانيللا سكاي "2001. قام ببطولته "توم كروز" و"بنلوب كروز", وأخرجه "كاميرون كاو".. وفي عام 2001 قدم " أليخاندرو" فيلمه الشهير " الآخرون" ـ The Others ـ بطولة نيكول كيدمان, وهو أول أفلامه الناطقة بالإنجليزية.
في كل أفلامه السابقة يستعرض المخرج سحر وغموض الحياة والموت.. موضوعات أفلامه تكشف عن رغبته في تحري المجهول, والمناطق النفسية الغامضة للإنسان.. موضوعات ربما لا تبدو معتادة لرجل في سن الثانية والثلاثين.. لكنه يقول : " أنا مهتم بالناس, مهتم بما يُعطي للوجود معنى, كما أنني مهتم بما يُجرد الحياة من معناها. "
أمل الجمل